خلق الله المشيئة بنفسها

خلق الله المشيئة بنفسها


بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤ - الصفحة ١٤٥
20 - التوحيد: أبي، عن علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: خلق الله المشيئة بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشيئة.
بيان:
هذا الخبر الذي هو من غوامض الاخبار يحتمل وجوها من التأويل:
الأول:
أن لا يكون المراد بالمشيئة الإرادة بل إحدى مراتب التقديرات التي اقتضت الحكمة جعلها من أسباب وجود الشئ كالتقدير في اللوح مثلا والاثبات فيه ، فإن اللوح وما أثبت فيه لم يحصل بتقدير آخر في لوح سوى ذلك اللوح، وإنما وجد سائر الأشياء بما قدر في ذلك اللوح، وربما يلوح هذا المعني من بعض الأخبار كما سيأتي في كتاب العدل، وعلى هذا المعنى يحتمل أن يكون الخلق بمعنى التقدير.
الثاني:
أن يكون خلق المشيئة بنفسها كناية عن كونها لازمة لذاته تعالى غير متوقفة على تعلق إرادة أخرى بها فيكون نسبة الخلق إليها مجازا عن تحققها بنفسها منتزعة عن ذاته تعالى بلا توقف على مشيئة أخرى، أو أنه كناية عن أنه اقتضى علمه
١٤٥
الكامل وحكمته الشاملة كون جميع الأشياء حاصلة بالعلم بالأصلح فالمعنى أنه لما اقتضى كمال ذاته أن لا يصدر عنه شئ إلا على الوجه الأصلح والأكمل فلذا لا يصدر شئ عنه تعالى إلا بإرادته المقتضية لذلك.
الثالث:
ما ذكره السيد الداماد قدس الله روحه أن المراد بالمشيئة هنا مشيئة العباد لأفعالهم الاختيارية لتقدسه سبحانه عن مشيئة مخلوقة زائدة على ذاته عزو جل، وبالأشياء أفاعيلهم المترتب وجودها على تلك المشيئة، وبذلك تنحل شبهة ربما أوردت ههنا وهي أنه لو كانت أفعال العباد مسبوقة بإرادتهم لكانت الإرادة مسبوقة بإرادة أخرى وتسلسلت الإرادات لا إلى نهاية.
الرابع:
ما ذكره بعض الأفاضل وهو أن للمشيئة معنيين:
أحدهما متعلق بالشائي وهي صفة كمالية قديمة هي نفس ذاته سبحانه وهي كون ذاته سبحانه بحيث يختار ما هو الخير والصلاح،
والآخر يتعلق بالمشيئ وهو حادث بحدوث المخلوقات لا يتخلف المخلوقات عنه، وهو إيجاده سبحانه إياها بحسب اختياره، وليست صفة زائدة على ذاته عز وجل وعلى المخلوقات بل هي نسبة بينهما تحدث بحدوث المخلوقات لفرعيتها المنتسبين معا. فنقول: إنه لما كان ههنا مظنة شبهة هي أنه إن كان الله عز وجل خلق الأشياء بالمشيئة فبم خلق المشيئة أبمشيئة أخرى؟ فيلزم أن تكون قبل كل مشيئة مشيئة إلى مالا نهاية له فأفاد الإمام عليه السلام أن الأشياء مخلوقة بالمشيئة، وأما المشيئة نفسها فلا يحتاج خلقها إلى مشيئة أخرى بل هي مخلوقة بنفسها لأنها نسبة وإضافة بين الشائي والمشيئ تتحصل بوجوديهما العيني والعلمي، ولذا أضاف خلقها إلى الله سبحانه لان كلا الوجودين له وفيه ومنه، وفي قوله عليه السلام: بنفسها دون أن يقول: بنفسه إشارة لطيفة إلى ذلك، نظير ذلك ما يقال: إن الأشياء إنما توجد بالوجود فأما الوجود نفسه فلا يفتقر إلى وجود آخر بل إنما يوجد بنفسه.
الخامس:
ما ذكره بعض المحققين بعد ما حقق أن إرادة الله المتجددة هي نفس أفعاله المتجددة الكائنة الفاسدة فإرادته لكل حادث بالمعنى الإضافي يرجع إلى (١٤٦)
إيجاده، وبمعنى المرادية ترجع إلى وجوده قال: نحن إذا فعلنا شيئا بقدرتنا واختيارنا فأردناه أولا ثم فعلناه بسبب الإرادة نشأت من أنفسنا بذاتها لا بإرادة أخرى وإلا لتسلسل الامر لا إلى نهاية فالإرادة مرادة لذاتها، والفعل مراد بالإرادة، وكذا الشهوة في الحيوان مشتهاة لذاتها لذيذة بنفسها، وسائر الأشياء مرعوبة بالشهوة فعلى هذا المثال حال مشيئة الله المخلوقة، وهي ونفس وجودات الأشياء فإن الوجود خير ومؤثر لذاته ومجعول بنفسه، والأشياء بالوجود موجودة والوجود مشيئ بالذات، والأشياء مشيئة بالوجود وكما أن الوجود حقيقة واحدة متفاوتة بالشدة والضعف والكمال والنقص فكذا الخيرية والمشيئة، وليس الخير المحض الذي لا يشوبه شر إلا الوجود البحت الذي لا يمازجه عدم ونقص، وهو ذات الباري جل مجده، فهو المراد الحقيقي. إلى آخر ما حققه. والأوفق بأصولنا هو الوجه الأول كما سيظهر لك في كتاب العدل، وسيأتي بعض الأخبار المناسبة لهذا الباب هناك. وخبر سليمان المروزي في باب احتجاجات الرضا عليه السلام، وسنورد هناك بعض ما تركنا ههنا إن شاء الله تعالى، وقد مر بعضها في باب نفي الجسم والصورة، وباب نفي الزمان والمكان.